ذاكرة العشق.

.



ذاكرة العشق.







4

ويوما وأنا فى الجامعة قابلني الدكتور أحمد الطيب - وكان وقتها طالباً فى كلية أصول الدين- وقال لي "بلغ ستنا الحاجة بأن سيدنا الشيخ –يقصد والده- حضر بروض الفرج بالقاهرة." فذهبت لأخبر أمي فقالت:"ارجع وأحضر لنا تاكسي."، فأحضرت التاكسي، وذهبت مع أمي لمقابلة سيدنا الشيخ محمد الطيب والد الدكتور أحمد الطيب فجلسنا معه إلى ما شاء الله. وعند عودتنا سلمت عليه أمي لتستأذن بالخروج، فما كان مني إلا أن انحنيت، وقبلت قدميه الشريفتين فدعا لي بالخير.
ومرة أخرى أوقفني الدكتور عبد الحليم محمود، وكان فى هذا الوقت عميداً لكلية أصول الدين، وكان معه الدكتور محمد أبو العيون، وكيل الكلية عليهم رضوان الله، فسألني الدكتور عبد الحليم محمود عن أمى. وصار يسألني كثيراً عنها، وكأنه متلذذاً بسيرتها الزكية. ومن ضمن أسئلتة: ما وردها يا شيخ إبراهيم؟ فقلت له "جبر الخواطر."، فكانت عليها رضوان الله، تجبر خاطر كل من يأتي إليها، وقلت له أيضاً "ومن أهم أورادها بعد الصلاة على الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم الطبلية"، فسكت قليلا ثم قال: "أنت تقصد الإطعام؟" فقلت له "نعم. هو الإطعام." فقال هذا أعظم الأوراد "يا ولدي لقمة فى بطن جائع أفضل من بناء جامع". وقال:"اعلم يا شيخ إبراهيم إن أمك هذه هى زينب الوقت"، رضى الله عنها وأرضاها،.
وقد كنا قبل ذلك، قد ذهبنا، أنا وأمي، لزيارة أخي فى الله الحاج حامد طلب بالمحروسة، وبعدها بأيام قليلة جاءتنا قصيدة من أخي فى الله التقي النقي ولي الله الصالح الحاج أحمد ابو الحسن من أسوان والتى يقول فى مطلعها:
"أتينا إلى رحابك يا أميرة وزينب وقتنا أنت المشيرة"
وهذا تأييد لقول الدكتور عبد الحليم محمود.
وقبل ذلك كنا فى قنا عند الأخ الفاضل المرحوم "صافي" وكانت وجهتنا زيارة سيدى أبي الحسن الشاذلى رضى الله عنه. وكان هذا الأخ الفاضل يقوم بشراء ما نحتاجه فى رحلتنا، ويؤجر لنا السيارات، ويجمع المريدين لزيارة سيدى أبو الحسن الشاذلى. وكان عددنا كبير يملأ اكثر من عربتين من القطار، وكنا جميعاً قد خرجنا فى صحبة أمنا من القاهرة. ولما نزلنا على أخينا "الصافى" مكثنا عنده ليلتنا حتى صلينا الفجر، وبعد الصلاة رجعت إلى أمي، وكنت أنام أنا وأمي فى حجرة وحدنا. وفى الساعة التاسعة صباحاً تقريباً دخل علينا أخينا الحاج حامد طلب. وقال لأمي إن زوجته أم سعيد فرحت جداً عندما أخبرها بأن الحاجة زكية فى قنا، وقالت "إن شاء الله يكون غداؤها عندنا". قال لأمي هذا الكلام بعد أن ذهب إلى بلدته المحروسة، وأبلغ زوجته بهذا ثم ذهب إلى المدرسة التى يعمل بها ناظراً وكلف الوكلاء بالقيام بما يلزم حتى يرجع إليهم. فلما أخبر أمي بذلك غمزتني وهو يكلمها، وبعد أن أنهى كلامه وذهب، سألت أمي"لماذا غمزتيني يا أمى؟"، قالت: "إن أخاك من أهل الخطوة!"، فقلت لها "كيف يا أمى؟"، قالت:"أنتم صليتم الفجر سوياً، وعدتم إلىَّ حوالي الساعة السادسة أو السابعة صباحاً، وكلامه يعني أنه ذهب إلى منزله، وأبلغ زوجته، ورتب عمله بالمدرسة، وكان كل هذا فى بلدته المحروسة. وعندما نتحرك الآن الساعة العاشرة صباحاً تقريباً سوف نصل إليها بعد العصر إن شاء الله" وفى أثناء ذهابنا إلى المحروسة نزلنا بالقرنة عند سيدنا الشيخ محمد الطيب. وجلست أنا مع الشيخ محمد الطيب شقيق الدكتور أحمد الطيب، وتشرفت بالجلوس معه فى منزله، بل وشرفنى وأدخلنى خلوة جده الحاج أحمد الطيب الكبير. وبعد ذلك قمنا مع أمي بزيارة سيدنا الشيخ أحمد الطيب الكبير بالمقابر بجوار شجرة الدوم.
بعد ذلك ذهبنا إلى المحروسة بمنزل أخى الحاج حامد طلب. وكنا قبيل المغرب، وتشرفت أيضاً بعمدة المحروسة /العمدة جهلان وبعض أحبابه فى هذه الزيارة. ونمنا هذه الليلة فى المحروسة. وفى طريق عودتنا من المحروسة ذهبنا إلى زيارة قطب الصعيد الشيخ سيدنا أحمد أبو رضوان، في البغدادي فى الأقصر، وتشرفنا بلقائه، وأمسك أمى من يدها وقال: "تعالي يا زكية..."، وقال:"تعالى يا إبراهيم، وأدخلنا على المقام الذي كان يُبْنى من أجله، وقال: "اقرئي الفاتحة يا زكية، واقرأ الفاتحة يا إبراهيم أن يجعله الله منزِلًا مباركاً. وكانت أمى شديدة الشوق لرؤية سيدنا الشيخ محمد الطيب، وسيدنا الشيخ أحمد أبو رضوان عليهم رضوان الله جميعاً. ثم بعد ذلك ذهبنا لزيارة سيدي أبي الحسن الشاذلي، ومكثنا بعض الأيام، ثم عدنا إلى القاهرة. وكان معنا فى الرحلة الحاج محمد حارس محروس الذي كان فى ذلك الوقت مديراً لمصنع "أمر الله بليغ" بالشرقية. وكان من الصالحين، كما كان معنا فى ركب أمي كثير من الأولياء والصالحين.
وفى يوم كنا فى زيارة مولانا الإمام الحسين رضي الله عنه وكنا تقريباً الساعة السابعة صباحاً، وعند عودتنا للخدمة وجدنا رجلا يقف بعربة بطاطا فى الميدان فوضعت أمي يدها على البطاطا. وقالت: "بكم هذه القطعة يا ولدي؟" فقال لها "بعشرة قروش." . فأخذتها وأعطته جنيهاً، ولم يكن معها غيره فقلت لها "يا أمي هل ثمن هذه القطعة جنيهاً يا أمي؟!" قالت: "يا ولدي إنه يربي أيتاماً، فأردنا أن نستفتحه ليفتح الله عليه باب رزق."، وفعلا وسع الله عليه، وأصبح ميسور الحال. وكان الرجل يقوم بمثل هذا العمل لأول مرة.
وذات مرة أتى رجل فقير الحال، وملابسه رقيقة الحال، رثة وهو رجل طيب مكث عندنا بعض الأيام فى الخدمة ليلا ونهاراً وكان لديه خبرة فى تجارة العطارة فأعطته أمي ثلاث جنيهات دون أن يسأل، وقالت له "اعتمد على الله، واعمل بهم، وسوف يرزقك الله." فتاجر بهم وزادت تجارته حتى صار لديه من المال الكثير، وكان اسمه الشيخ طه. وكان يزورنا فى الخدمة، فلما زادت تجارته، انقطع عنا، وكان يتاجر فى كل شئ، وسكن فى فندق فلسطين بشارع الأزهر.
وكنت فى بعض الأوقات أدخل على أمي، ويكون وقت العصر مثلا فتسألنى: "فطرت يا ولدي؟"، فأعرف أنها لم تفطر حتى الآن، رغم وجود الخير الكثير من كل أنواع الطعام عندها خاصة الذبائح، لكنها كانت لا تطلب الطعام أبداً لنفسها، وكان الدراويش زهقوا من الطعام الكثير الذى يأكلونه، وكل منهم مشغول بنفسه فقط. فكنت أحضر لها الطعام فكانت، رضي الله عنها، تأكل القليل جداً من هذا الطعام، وتقول: "أهم شئ ضيوف آل البيت، وضيوف سيدنا الحسين يأكلوا."، وكانت تقدم الغالي والثمين، وتجبر خاطر كل من يدخل عليها.
وكانت عندى عادة صباح كل يوم، بعد ذهابى إلى عملي بجامعة الأزهر بالدراسة، أن أستأذن، وأحضر ساندوتش جبنة حلوب، وأذهب إليها، وأسألها "هل فطرت يا أمى؟"، فتقول: "لا يا ولدي". فأعطيها الساندوتش. وكانت تقول" الله يا ولدى إنى أحبه كثيراً" وتفرح بى. ومكثت على ذلك بضعة أيام واتضح لى بعد ذلك أنها لا تأكل منه شئ، وتعطيه لأي شخص يدخل عليها. ولكنها كانت تريد أن يجري الخير على يدي، فكانت تفرح بهذا العمل مني لقيامي به بدون تكليف منها. وتدعو لىَّ بالخير.
ويوما كنت جالس مع أمي، وكانت سعيدة بعمل أنجزته فى الخدمة لوجه الله تعالى. فمالت علىَّ وقالت: "والله يا ولدي عليك توصية كبيرة جداً من آل البيت، لذرة من الإخلاص عندك (وأشارت بأنملة إصبعها). لذلك قلت فى إحدى قصائدى:
وعلمت من آل النبي مَعَزَّتي
ما ساعني إلا خفضت جناحي
وسعيت للرحمن حين تذللي
وخشيت من ربي فكان إيضاحي

وذات مرة كنت معها، وأطلب الإذن بالسماح للسفر إلى بلدتي فأعطتني مائة جنيه، وقالت: "هاتها لي شلنات فضة..."، ولما عدت إلى بلدي فككت المائة جنيه شلنات كما طلبت، وفرزتهم، وغسلتهم وبعد ذلك أخرجت منهم خمسة وثلاثين جنيها، ووضعتهم فى حلة، وأفرغت عليهم زجاجة كلونيا، وغسلتهم بها، وصليت على النبى على كل واحدة منها، وكل عشرين أضعهم فى ورقة كجنيه، وذهبت بهم إلى أمي بعد يومين فقلت: "لها هذه ثلاثة وثلاثون جنيهاً يا أمي جديدة ونظيفة وهذا الباقى"،. قالت ضعهم فى حقيبتى هذه ولما قمت بهذا العمل كنت أقصد أن من يأخذ من يدها الشريفة نقوداً يراها جميلة طيبة، فلا يخرج من يدها إلا الطيب. فبعد برهة وأنا جالس معها قالت أثرا أن السيدة عائشة، رضي الله عنها، كانت تعطر الصدقة قبل أن تعطيها للسائل. فسألتها: "لماذا يا أمي؟"، قالت: "زي ما انت عملت فى شلنات أمك، وقالت لأن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت: "إن الصدقة تقع فى يد الله قبل أن تقع فى يد السائل. فعلمت منها هذا الحديث. لأنها كانت تعطي من يسلم عليها شلنا، وبعض التوفي، أو الملبس.



0 تعليقات