.
ذاكرة العشق.
"2"
...ولما أخبرت أمي بما حدث، قالت: "وإيه يعني يا ولدى، فأنا كنت أمر بمقابر سيدى علي زين العابدين، أو مقابر السيدة نفيسة، وأجد نفس الشئ الغريب، ولكنه أطول من ذلك، وشعره ناعم كما وصفت."، سألتها "ألم تخافي؟!" فقالت: "لا يا ولدي، فكلنا يسير في حاله، ولمطلوبه!!". وقالت لي: "بعد ذلك عندما تصل إلى المنزل عند أول العتبة، اقرأ الفاتحة لأمك، وشوف إللي هيحصل!!"، ففعلت كما قالت فلم أجد شيئًا بعدها أبدًا، واطمئن قلبي بعد الخوف، وكنت لا أرجع إلى البيت حتى تأذن لي أمي حيث كانت تسكن فى المنزل رقم 148 شارع جوهر القائد بالدراسة أمام جامعة الأزهر، وفى ليلة من الليالي حضر أحد المساكين ليتناول الطعام، فقال: "يا حاجة زكية هناك قطعة أرض بدرب الطبلاوى، تشتريها؟"، فقالت:" نعم" . فقال: "الأرض مساحتها ستون متراً، وعمولتي منها ثلاثون جنيهاً. فأعطته الثلاثين جنيهاً قبل أى شئ. فقال لها: "انتظري يا حاجة حتى تشتريها، وتختصي بها. فقالت له: "خذ هذا، والباقي على الله." فاشترتها بإذن الله، وبنيناها بإذن الله دور أول، وصارت المساحة بعد البناء خمسا وأربعين متراً منها المدخل، والمطبخ، والحمام، والسلم، وحجرة من داخل حجرة. ولكن الله فتح عليها، واشترت ما حولها، فأصبحت الساحة عامرة، وبها مسجد، وبجوارها أربع عمارات. وسبب بناء هذا المسجد(مسجد داخل الساحة به ضريح بنته الزكية، ولكنها لم تدفن به)، أن سيدنا الشيخ عبد الغفار الخفيف كان قد جاء لزيارة أمي فرحبنا به جميعاً أنا وأخوتى، والتففنا حوله فرحين بقدومه فنادى على أم مصطفى، وقال:"يا بنت الوكيل هاتي جلابية بيضا من جلاليب الواد إبراهيم إللي بيصلي فيها الجمعة فى سيدنا الحسين"، فأحضر كل واحد من الموجدين جلباباً فقال: "لا تبديل لكلمات الله هى جلابية الواد إبراهيم وبس..."، وقال لزوجتى: "خذي جلبيتي، واغسليها، وأنا طالع السطح، أنام أربع ساعات تكون جلابيتي نشفت..." وعندما قام من نومه لبس جلبابه، وصلى بها على الحجارة فى هذا المنزل المهدوم إلى جوارنا. فأخبرت أمي بصلاته على هذه الحجارة فقالت:"إن شاء الله يصبح مسجداً." فأصبح الآن مسجداً، وأربع عمارات بفضل الله، وبركة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته. فبنت المسجد وبه ضريح، ولما أحضرت المقصورة الخشب تأثرت كثيراً، وقلت لها:"لماذا يا أمى؟"، قالت عليها رضوان الله:"يا ولدى لا أعرف إن كنت سأدفن هنا أم لا، ولكن إذا أتيت أنت لتقرأ لي الفاتحة ستجد، روحي حضرت...!" عليها سلام الله ورحمته وبركاته. هذا لأنها صدقت مع الله فأعطاها الله ما تريد وزيادة.
ولما تم بناء الخدمة الجديدة بدرب الطبلاوى قالت لى: "هات أولادك وعفشك، واسكن فى الخدمة القديمة، التى فى 148 شارع جوهر القائد بالدراسة، لأنه فى مولد سيدنا الحسين بيكون فى ضيوف كثير جداً " فكانت تريد إرسال بعضهم ليبات فى الخدمة القديمة، ولكن صاحب المنزل أخرجنى بعد فترة ،تقريباً، عامين منها بقوة القانون.
الفصل الثاني.
بحثت عن سكن آخر قريب من أمي، فوجدت حجرة بلوازمها بدرب الطبلاوى رقم 9. فأخذتها مؤقتاً حتى أستدل على شقة واسعة لاولادي، ومكثت فيها حوالي سنة ونصف، وكنت طوال هذه الفترة أبحث عن شقة أستقر بها بأولادى، وكان لي زميل يبحث معي ففي صباح يوم من الأيام علمت أنه باع شقة والده، ولم يخبرني فبكيت، وقلت لزملائي: "والله لبكرة أجد شقة ممتازة، وأغديكم فيها". أقصد بكلمة بكرة يعني (بعد فترة شهر أو شهرين) وفى آخر النهار ذهبت إلى أمي فوجدت واحداً من الأحباب ينتظرني بأمر منها ليدخلني عليها، فلما دخلت قالت: "لماذا تبكي وأنا أمك؟" فقلت:"لا أعرف يا أمي؟" قالت: "شقة إيه يا ولدي؟ اذهب عند أخي علي بالمنصورة وخذ منه مفتاح شقة شبرا..."، هنا بكيت كثيراً، وفرحت بأنها سوف تعطيني شقة، ومن فرط دلالي عليها جلست على الكرسي، ووضعت قدما على الأخرى، وقلت لها: "لازم المفتاح يجي هنا". فأرسلت غيري، ليحضر المفتاح، وكان أخي حسن. وبعدما أحضر المفتاح فى اليوم التالي، فقلت: ،متدللا عليها، "والله لا أدخلها حتى ينظفوها ويبيضوها."، فقالت: "طاوعوه..." ففعلوا، ثم أرادوا أن يعطونى المفتاح فمن فرط الدلال عليها -عليها رضوان الله تعالى- أقسمت أن لا آخذ المفتاح إلا بعد أن ينقلوا إليها جميع منقولاتى، وبعدها أخذت المفتاح. ومكثت بها حوالي سبع سنوات، وكان بها مكتب، وسرير سفري، ومطبخ، وست كراسي خيرزان، وكنبتان فقالت: "كل هذا لك يا ولدي، وأما الشقة فهي لك طول ما أنت عايش فى مصر، ولما أراد ربنا وانتقل عملي إلى الشهداء، بيضت الشقة، وغيرت الكالون، وأعطيتها المفتاح، وقلت لها: "جميع الحاجات اللي كانت فى الشقة تركتها فيها مادام أنا منقول فتنقل هذه المنقولات إلى الخدمة بسيدنا الحسين باسمي..."، هذا بعد ما أمرتني بأخذها قلت: "لا يا أمي...، يكونوا هنا فى الخدمة باسمي إن شاء الله..."وذلك بعد إلحاح طويل منها -رضي الله تعالى عنها-. فلما وجدتني لم أطمع فى هذه الأشياء، وبعد ما قالت:-"يا ولدي احنا مسامحين فيهم لك، ولأولادك..." وأبيت إلا أن يكونوا بالخدمة، فدعت لى كثيراً بالستر وقالت:"ربنا يجعلك مستور أنت وأولادك.".
فى يوم من الأيام أرسلتنى أمى لأخى أحمد سالم لأدعوه لها، وكان يسكن فى العباسية، وعند مروري بجوار مسجد سيدنا الإمام الحسين، رضي الله عنه، سمعت أذان العصر، وكان المؤذن يقول بعد الآذان فى الصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، "يا من بك يرحمنا الله" بصوت جميل فهز ذلك قلبي فدخلت المسجد لأصلي، وأكون تحت راية "يا من بك يرحمنا الله" وصليت والحمد لله. ثم زرت مولانا الإمام الحسين، رضي الله تعالى عنه، وبعد الزيارة قابلت بعض الناس من بلدنا "ميت شهالة" فجلست معهم على المقهى التى أمام الباب الأخضر لأحييهم، صرفت أكثر مما هو فى جيبي الذي كان بالكاد يكفي أجرة المواصلات من الدراسة إلى العباسية والعودة، فاحترت، ودعوت الله ألا يخذلنى أمام ضيوفه، فما أتممت هذا الدعاء، إلا وأخى أحمد سالم الذى كنت ذاهبا لأحضره، حسب طلب أمي، قد حضر أمامي، وقام بدفع الحساب كاملا دون أن أطلب منه. فأخذته ورجعت إلى أمنا، كل هذا ببركة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الأطهار ، وببركة أمنا الحاجة زكية رضى الله عنها.
وانظر يا أخي إلى هذا الأدب المحمدى من أمي الحاجة زكية، رضي الله عنها، كنت ذات مرة أجلس معها جلسة طويلة فلاحظت أننى قد آلمتني قدماي، فقالت: "بعد إذنك يا إبراهيم يا ولدي أَفْرِد رجلي"، فقلت لها:"يا أمي أنت أمي، وتأمري، لا تستأذني مني أنا ولدك، فقالت:"طيب قلي مددى يا زكية"، فقلت لها: "مددي يا زكية..."، وجلسنا نضحك. وكانت تقصد بذلك راحتي أنا. فقالت: "إفرد رجليك أنت كمان"، فاستحييت منها فقلت لها:" أنا مرتاح يا أمي..." فقالت فى حنان: "لو لم تأخذ راحتك أمام أمك فأين تأخذها؟ إفرد رجليك يا ولدي..." هذا من فرط حنانها، وأدبها المحمدى. وأنا والله إلى الآن أستحي أن أمدد رجلى أمام صورتها، والله وكيل وشهيد. وكأن رجلي هى التى تستحيى أن تنفرد أمام صورتها رضي الله عنها.
وأنا جالس معها قالت: "ادع لى يا ولدي بأن ربنا يدخلنا من باب الذل والانكسار." فسألتها:"ما هذا الباب يا أمي؟"، قالت: "باب المتذللين، والمنكسرين لله تعالى، ربنا يجعلنا منهم يا ولدي...".
ومرة أخرى، ونحن جلوس قالت:"ادع يا ولدى أن نقابل ربنا لا لنا ولا علينا". فقلت لها: "وازاي يا أمي؟ تعمل إيه الحالة دية؟" فأجابت: "ربنا يتغمدنا برحمته الواسعة..." وقالت: "يا ولدي يا إبراهيم لما أكلمك كلام اجعله حلقة فى أذنك، ولا تنساه أبداً، واجعله من الله، وضغطت على لفظ الجلالة، وهي تدق يدها الشريفة على صدري، وجاء نفسها كله في وجهي، فحفظت كلامها كله." لكنني لم أعرف معناه إلا بعد انتقالها، فظهرت لي معاني كلامها من أوله إلى آخره، وأفاض الله علىَّ بالكثير ببركة الطاعة لأنها قالت: "العز فى الطاعة يا ولدي."
0 تعليقات